هل استعاد المؤمن ظله؟ :
حين تهاوى الحبر الأعظم يوحنا بولس الثاني في ماي 1981 مصابا برصاص ” محمد علي آغشا “،القاتل المحترف، سمع البعض البابا يهمس: ” لماذا أنا ؟ لماذا أنا ؟ “. هذه الكلمات القليلة ،في تلك اللحظات، تساعد المتأملَ اليوم على فهم جانب أساس من مسيرة رجل مؤمن برسالة ديانة كبرى طالما امتُحِنت عبر العصور. ” لماذا أنا؟”: استفهام إنكاري أطلقه قائله وكأنه لم يدُرْ بخلده أن يكون، وهو الداعي إلى السلام والمحبة، مستهدَفًا بالقتل شأن رجال آخرين بيدهم قهر النفوذ وسطوة السلطان الزمني. السؤال الذي يبدو لنا موضوعيا، من زاوية المتابع المسلم، حين نريد تقويم جانب من مسيرة الرجل الذي أشرف على حظوظ المسيحية الكاثوليكية لأكثر من ربع قرن هو : كيف يمكن أن نقبل أن تحقق الكنيسة هذه الحركية في شتى أنحاء العالم وبخاصة صوب المعسكر الشيوعي ثم يكون زعيمها خالي الذهن من أية تداعيات سياسية دولية يمكن أن تلحقه؟ هذا الجانب الأول حريّ بالبحث لأن غالب المهتمين بالشأن العام من المسلمين ما زالوا يشكّكون في نجاعة التمايز بين الديني والسياسي بل و في إمكانيته ؛ كما أنهم ما زالوا ينظرون إلى العلاقة مع الطرف المسيحي الأوروبي بعين الريب الشديد. ما نريد أن نعالجه بمناسبة وفاة يوحنا بولس الثاني هو هذا السؤال المثنّى الذي يؤرق الفكرالإسلامي والذي لا مفر من الإجابة عنه إن أردنا تـجاوز أزمة تعصف بالنخب المسلمة منذ ما يزيد عن قرنين. السؤال المزدوج هو من جهة: إلى أي حد يمكن الفصل فعلا بين الديني والزمني و من جهة ثانية هل تمكّنت الكنيسة الكاثوليكية حقيقة من بلوغ هذا الفصل والحال أن حضورها المباشر وغير المباشر في المجالات العامة لا يكاد يخفى؟ إذا باشرنا مسيرة الحبر الأعظم من هذا المدخل فإننا نعتبر أن ما قاله البابا في استفهامه الإنكاري يصوّر بدقة وصدق ما انتهى إليه الوعي الكاثوليكي في خصوص وظيفة الدين المسيحي في عالم الحداثة. ما استقر عليه الفكر المسيحي في صياغته الكثوليكية هو أن رسالة الدين هي خلاص الإنسان وتدبير معنى الحياة أما العلاقة بالشؤون العامة للمدينة وما يتصل بالفعل في الزمن فإن له نظاما وحركة خاصين لا ينبغي أن يتولاهما رجال الدين. مثل هذه الرؤية تحققت بصعوبة وواكبت تطوّرا للأوضاع الاجتماعية والفكرية في الغرب الأوروبي بما حال نهائيا دون العود إلى ما كانت عليه الأوضاع في القرون الوسطى. لقد انتهى الفكر المسيحي في الغرب الأوروبي إلى أن الحراك الديني عندما يصبح فعلا في الزمن فإنه يخّرب الدين ولا يفيد السياسة. هذا ما بلغته سيرورة الأوضاع منذ حركة الإصلاح الديني في الغرب وهي سيرورة اعتمدت تأصيلا عقديا وفكريا للخصوصية المسيحية معطية لكلمة السيد المسيح بعدا معاصرا ينبغي التنبه إليه ؛ لقد قال عليه السلام : ” اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ، ما تمثّله الفكر المسيحي في الغرب الحديث من هذه المقولة هو أنه لا ينبغي أن يقدَََّس الفعل الزمني السياسي. بذلك كان المؤمن مدعوّا إلى ألاّ يقدّس ما لا يقدّس من الفعل في الزمن وإلاّ آل الأمر إلى تقويض ذاتية الدين ورسالته من ناحية وإفساد ما يصنعه القائمون على الشأن العام بما يُستعار لهم من مسوغات دينية تُخفي أزماتهم وسوء اختياراتهم من ناحية ثانية. حين نعود إلى مسيرة البابا الراحل وخاصة إلى تكوينه المعرفي – الأخلاقي والروحي نكتشف أمرا لافتا للنظر يؤكد ما سلف. إنه ذلك الوثوق من رسالة الدين المسيحي رغم استتباب الحداثة الأوروبية ورغم ما يبدو من صلف العقل المنتصر خاصة في الصياغة الإلحادية الشيوعية. هو وثوق ناتج عن استيعاب للفلسفة الغربية عامة وتمثّل بالخصوص لنقدها للفكر المسيحي طيلة العصور السابقة. ما يلمسه الباحث في عدد من مقاطع خطب البابا وفي أجزاء من تراثه المكتوب ويدركه أيضا في التكوين المعرفي اللاهوتي لعدد من رموز الكنيسة المسيحية يثبت أن الموضوع ليس مجرد مراوغة وتزويق لفظي. إنه رهان فعلي بدا واضحا مع البابا يوحنا XXIII ثم تحمّـلَه بولس VI وبعده البابا الراحل بدرجة أقل. إنه الاختيار الذي يعتبر أن الإصلاح الديني والأنوار والحداثة وإن غيرت جذريا من وعي الإنسان الغربي خاصة وإدراكه لنفسه وللعالم فإن هذا لا يعني ضرورة استنفاذ الدين لأغراضه. لذلك فما تحقق من اصطدام الكثيرين بالسلطة الكنسية الأوروبية باعتماد معارف علمية موثَّـقة ومناهج فكرية جديدة أمر يحتاج إلى إعادة نظر تتطلب مراجعات عميقة ومريرة. مثل هذا التوجه قام به وما يزال رجال دين يريدون أن يستعيدوا ظلهم في أرض المعرفة والعلم لكن دون أن يعني ذلك القبول باستئصال للدين ولإيمان المؤمنين. أكثر من ذلك، لقد انتهت بعض تلك المراجعات إلى اعتبار أن المفكرين الملحدين مثل “فورباخ” و “فرويد” و”ماركس” و”نيتشة” و”سارتر” قد أدَّوا ،على غير قصد منهم، خدمة كبرى للإيمان الديني لإنهم بنقدهم الصارم زعزعوا الدواعي الإيمانية المتهافتة و كنسوا الأرض من جميع التراهات المزيفة. لقد مهّدوا السبيل لفكر ديني جديد ومعاصر متناغم مع الكشوف العلمية من ناحية ومؤكد على ضرورة التوصل إلى دواع صحيحة للإيمان وتوطيدها والتعبير عنها بوجه أوضح. هذا جانب مما اعتمده البابا الراحل في انفتاحه على عالم متطوّر معقَّد ومأزوم. كانت رحلاته في مختلف الأصقاع تعني أوّلا قبول تحدي المشاكل الماثلة في كل قطر يتجه إليه ، إضافة إلى ذلك فهي تعني ضمنيا نقدا للذات ولأخطاء الكنيسة العديدة التي لا مفر من الإقرار بها ومواجهتها بما تحتاجه من خُلُق التواضع وصرامة الوعي. تلك هي المفارقة الكبرى التي أتاحت للبابا الراحل مصداقية فاجأت صنّاع القرار وأصحاب الفكر و النفوذ في أوروبا أولا والعالم بعد ذلك. إنها مفارقة من يكتشف نقاط ضعفه فيواجهها مريدا أن يحوّلها إلى مرتكزات قوّة. مثل هذا الاختيار لم يصنعه البابا، فالمؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية من قبله بدأت حركة غير عادية منذ المجمع الفاتيكاني الثاني في أكتوبر 1962. كانت حركة أقرب إلى الثورة لأنها اعترفت بالمفارقة الكاثوليكية وقررت مواجهتها بكلمة هي مشروع كامل : التحيين. إنها الــ Aggiornamento أو المواكبة التي تعني أننا إذا أردنا أن نحتفظ بمكانتنا في العالم فلا مناص من الاستماع إلى هموم العالم وهواجسه ولن يتحقق ذلك إلا إذا نزّلنا المعتقدات الكاثوليكية في هذا العصر. ما أراده البابا الراحل إضافة إلى ذلك، بل وقبل ذلك، هو أن يكون أبًا يحنو على إنسانية تعاني من أدواء ضياع المعنى و بؤس الحياة.أ درك البابا وهو القادم من بولونيا الأسيرة أن الشعوب محتاجة إلى قيم ومعان كادت تندثر. من ثم جاء تركيزه على أمرين اعتبرهما الرافعتين الأساسيتين للإيمان وللحياة الروحية : النظام الأخلاقي و حماية مؤسسة الأسرة التي تراجعت أهميتها وانهارت منها مكانة الأب في زحمة تحولات جارفة. بذلك انطلق منذ تنصيبه في سنة 1978 مبتدأ بالعبارة المأثورة ” لا تخافوا” التي أراد بها مواجهة نظام شيوعي- ستاليني قمع موطنه البولوني ثم أراد بها بدرجة ثانية عودةً للروح في أوروبا المهددة في إنسانيتها وقيم التضامن والمحبة التي تحقق هويتها. بهذه الأبوّة الحادبة المشفقة وبتواصل مع حركة إصلاح عقدية ومؤسساتية مضت سنوات البابا يوحنا بولس الثاني سعيا في أن يبقى حافزا قيَميا وروحيا في عالم قلق حائر. هكذا تبدو للمتابع مسيرة الحبرالأعظم، لم يتجاوز فيها حدود التمايز بين الديني والسياسي رغم ما يمكن أن تذهب إليه بعض التحليلات التي تعتبره الرجل الأخطر دينيا وسياسيا في نهايات القرن العشرين. ما نعتقده أن الرجل استعاد جانبا من الحضور الكاثوليكي ضمن الحدود التي رسمتها الحداثة في علاقتها بالمقدس. لم يتخط تلك الحدود وما كان له أن يفعل خاصة وأن بعضا من أسلافه الذين عايشوا الحرب العالمية الثانية قد أثاروا شكوكا في مصداقية علاقة الكنيسة بالصراعات السياسية الأوروبية. فارق يوحنا بولس الثاني الدنيا بعد أن انتهت الحرب العالمية الثالثة- الحرب الباردة- وفي رصيده مساهمة إيجابية في تحرير موطنه البولوني باسم مرجعية روحية وأوروبية بامتياز. تلك هي المساهمة الكبرى للحبر الراحل الذي لم يعتبر أن المشكلة في الفصل بين الديني والزمني بل في حرص مفكرين أوروبيين وحركات إيديولوجية على تجاوز الديني نهائيا بحرمان الإنسان من أية مرجعية متعالية.
احميده النيفر كاتب وجامعي من تونس، عضو فريق البحث الإسلامي المسيحي GRIC بفرنسا.
Sorry, the comment form is closed at this time.